كَلِمَةُ الشَّهْرِ - لِشَهْرِ جُمَادَى الأُولَى - هَكَذَا هُوَ الاِسْتِعْمَارُ

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ،

إِنَّ كَلِمَةَ (الاِسْتِعْمَارِ) كَانَتْ وَلَا زَالَتْ تَبْغَضُهَا النُّفُوسُ، وَتَمُجُّهَا الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا الأَسْمَاعُ مَتَى ذُكِرَتْ، وَحَيْثُمَا سُمِعَتْ وَتَرَدَّدَ صَدَاهَا؛ وَذَلِكَ لِمَا تَنْطَوِي عَلَي

ْهِ مِنْ مَعَانِي الظُّلْمِ وَالقَهْرِ وَالعُدْوَانِ، مِمَّا يَدْفَعُ بَعْضَ الكُتَّابِ أَوِ العَارِفِينَ وَحَتَّى الخُطَبَاءَ عِنْدَ تَنَاوُلِهِمْ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ المُسْتَقْبَحَةِ المُسْتَكْرَهَةِ يَقُولُونَ بَدَلَ (الاِسْتِعْمَارِ) كَلِمَةَ (الاِسْتِدْمَارِ)، وَحُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَمَا ظَلَمُوا؛ لِأَنَّ (الاِسْتِعْمَارَ) بِالمَعْنَى المُرَادِ فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ المُتَأَخِّرَةِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ نِهَايَةِ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمَعْنَى المُتَرْجَمِ لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى (الاِسْتِدْمَارِ) كَمَا نَعْهَدُهُ مِنْ دَمَارٍ وَتَخْرِيبٍ وَإِفْسَادٍ لِلْبِلَادِ، وَاسْتِعْبَادٍ وَاسْتِرْقَاقٍ لِلْعِبَادِ.

أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الكَلِمَةِ (أَعْنِي الاِسْتِعْمَارَ)، فَإِنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ فِي القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَبَانَ المُفَسِّرُونَ عَنْ مَعْنَاهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ (هُودٍ): ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هُود: 61].

قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى "اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" أَيْ: أَعْمَرَكُمْ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَعْنَى الآيَةِ: "أَيْ: جَعَلَكُمْ عُمَّارًا تَعْمُرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا".

وَقَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ: "وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، أَيْ: أَسْكَنَكُمْ فِيهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ... تَقُولُ العَرَبُ: أَعْمَرَ فُلَانٌ فُلَانًا دَارَهُ، وَمِنْهُ العُمْرَى".

فَالمَعْنَى الحَقِيقِيُّ لِكَلِمَةِ (الاِسْتِعْمَارِ) هُوَ الإِعْمَارُ وَالبِنَاءُ وَالإِصْلَاحُ، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَقَاصِدِ أُولَئِكَ المُعْتَدِينَ الدَّنِيئَةِ وَمَطَامِعِهِمُ التَّوَسُّعِيَّةِ الاِسْتِيطَانِيَّةِ المَقِيتَةِ، وَهَوَى البَطْشِ وَالقَهْرِ وَالبَغْيِ وَالتَّسَلُّطِ، فَإِنَّهُمْ جَرَّدُوهَا مِنْ فَحْوَاهَا الإِيجَابِيِّ وَوَجَّهُوهَا إِلَى مَا يُلَائِمُ أَغْرَاضَهُمْ.

وَمِنْ هُنَا صَارَ (الاِسْتِعْمَارُ) مُصْطَلَحًا سِيَاسِيًّا يَدُلُّ عَلَى العُدْوَانِ وَالاِسْتِبْدَادِ وَاسْتِضْعَافِ الآخَرِينَ وَإِذْلَالِهِمْ وَقَهْرِهِمْ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ عَبْرَ اسْتِخْدَامِ وَسَائِلِ العُنْفِ وَالقُوَّةِ وَالفَتْكِ وَالبَطْشِ بِلَا رَحْمَةٍ وَلَا شَفَقَةٍ؛ وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ بَاطِشَةٍ تُجَاهَ دَوْلَةٍ ضَعِيفَةٍ مُسْتَضْعَفَةٍ؛ بِقَصْدِ إِذْلَالِهَا وَبَسْطِ النُّفُوذِ عَلَيْهَا وَإِخْضَاعِ سُكَّانِهَا وَمُمَارَسَةِ الاِسْتِعْبَادِ وَالاِسْتِرْقَاقِ عَلَيْهِمْ؛ لِنَهْبِ خَيْرَاتِهِمْ وَمَسْخِ هُوِيَّتِهِمْ، وَذَلِكَ بِالقَضَاءِ عَلَى أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِهِمْ، وَاسْتِغْلَالِ ثَرْوَاتِهِمْ، وَالخُلُوِّ بِرِقَابِهِمْ مِنْ خِلَالِ مَسْخِ هُوِيَّتِهِمُ الحَضَارِيَّةِ، وَمَحْوِ سِمَاتِ شَخْصِيَّتِهِمْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وُجُودِهِمْ: كَالدِّينِ وَاللُّغَةِ وَالتَّارِيخِ وَالعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ، وَقَطْعِ الصِّلَةِ بَيْنَ هَذَا الشَّعْبِ المُسْتَعْمَرِ وَبَيْنَ مُكَوِّنَاتِ حَيَاتِهِ فِي شَتَّى المَجَالَاتِ.

وَقَدْ يَنْجَحُ (الاِسْتِدْمَارُ) فِي تَنْفِيذِ خُطَطِهِ التَّدْمِيرِيَّةِ فَيُحَوِّلُ هَذَا البَلَدَ المُسْتَعْمَرَ إِلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ العَنَاصِرِ البَشَرِيَّةِ المُتَنَافِرَةِ، المُتَنَاقِضَةِ، المُتَنَاحِرَةِ، الَّتِي يَسْهُلُ فِيمَا بَعْدُ قِيَادُهَا وَسَوْقُهَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ المُسْتَدْمِرُ.

لَا يُدْرِكُ هَذَا الَّذِي نَقُولُهُ وَنُدَنْدِنُ حَوْلَهُ حَقَّ الإِدْرَاكِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعْنَى (الاِسْتِدْمَارِ) وَذَاقَ مُرَّ عَلْقَمِهِ، وَغَصَّ بِهِ حَلْقُهُ، وَجَنَى شَرَّهُ، وَعَاشَ تَحْتَ نِيرِهِ، وَنَالَهُ مِنْ شِدَّتِهِ مَا نَالَهُ، وَلَيْسَ المُخْبَرُ كَالمُعَايِنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]. وَخَيْرُ مَا يُقَدَّمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِر: 14].

وَكَانَتِ الجَزَائِرُ المُسْلِمَةُ مِنْ بَيْنِ الدُّوَلِ الَّتِي نَالَتْ حَظَّهَا المَقْدُورَ مِنْ هَذَا البَلَاءِ المَحْتُومِ، أَعْنِي بِهِ (الاِسْتِدْمَارَ) الفَرَنْسِيَّ البَغِيضَ، فَقَدْ تَمَّ احْتِلَالُهَا مِنْ قِبَلِ فَرَنْسَا الظَّالِمَةِ المُجْرِمَةِ بَعْدَ تَدْبِيرٍ وَتَخْطِيطٍ وَإِعْدَادٍ وَاسْتِعْدَادٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ (1246 هـ) الموَافِقِ لِـ (جْوِيلْيَة 1830 م)، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُحْكِمَتِ الخُطَطُ وَسُطِّرَتِ البَرَامِجُ وَهُيِّئَتِ الأَجْوَاءُ وَحُدِّدَتِ العِلَلُ وَالأَسْبَابُ، فَكَانَتِ القَشَّةَ القَاصِمَةَ لِظَهْرِ البَعِيرِ فِي حَادِثَةِ المِرْوَحَةِ المَشْهُورَةِ الَّتِي اعْتَمَدَتْهَا فَرَنْسَا حُجَّةً وَاهِيَةً لِاحْتِلَالِ بَلَدِ الجَزَائِرِ.

وَقَدِمَ المُسْتَدْمِرُ الفَرَنْسِيُّ بِجُيُوشِهِ الجَرَّارَةِ المـُدَجَّجَةِ بِالسِّلَاحِ، وَتَمَّ إِنْزَالُهَا فِي شَوَاطِئِ السَّوَاحِلِ الغَرْبِيَّةِ لِلْبِلَادِ، فَنَزَلَتْ كَنُزُولِ الوَبَاءِ المُمِيتِ الَّذِي يَحُلُّ بِأَرْضٍ فَيُرْعِبُ أَهْلَهَا وَيَنْشُرُ المَوْتَ فِي جَمِيعِ أَرْجَائِهَا. وَكَانَ المَقْصِدُ الجَلِيُّ لِفَرَنْسَا مِنْ قُدُومِهَا إِلَى الجَزَائِرِ بَسْطَ نُفُوذِهَا عَلَى هَذَا البَلَدِ المُسْلِمِ وَجَعْلِهِ مُسْتَعْمَرَةً فَرَنْسِيَّةً تَابِعَةً لَهَا، وَمِنْ ثَمَّةَ الاِسْتِئْثَارَ بِثَرْوَاتِهَا وَنَهْبَ خَيْرَاتِهَا وَاسْتِغْلَالَ أَسْوَاقِهَا لِتَنْمِيَةِ اقْتِصَادِهَا.

وَقَدْ يَأْخُذُ (الاِسْتِدْمَارُ) أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً وَيُنَفَّذُ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ تَكُونُ مُتَاحَةً مُنَاسِبَةً فِي الوَقْتِ الَّذِي يُرَادُ فِيهِ اسْتِعْمَارُ بَلَدٍ مَا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِعْدَادِ العُدَّةِ وَالعَدَدِ مَعَ مُرَاعَاةِ الخُطَطِ وَالوَسَائِلِ المُخْتَارَةِ وَالمَرَاحِلِ المُعَيَّنَةِ وَالأَهْدَافِ المُحَدَّدَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي بِإِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ بِصُحْبَةِ قُوَّةِ الحَدِيدِ وَالنَّارِ.

v فَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِدْمَارُ مُبَاشِرًا: وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ نَقْلِ الجُيُوشِ العَسْكَرِيَّةِ المُسَلَّحَةِ إِلَى البَلَدِ المُرَادِ احْتِلَالُهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا زَالَتْ تُسْتَخْدَمُ إِلَى الآنَ لَكِنْ بِصُورَةٍ نِسْبِيَّةٍ، لَكِنَّ آثَارَهَا السَّلْبِيَّةَ أَشَدُّ وَأَقْطَعُ وَأَعْنَفُ لِمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ أَسْلِحَةٍ مُتَطَوِّرَةٍ جَرَّاءَ الزَّمَنِ الحَاضِرِ.

v وَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِدْمَارُ غَيْرَ مُبَاشِرٍ: وَهُوَ احْتِلَالُ العُقُولِ وَالقُلُوبِ وَالأَفْكَارِ مِنْ خِلَالِ مَا يُسَمُّونَهُ بِالغَزْوِ الفِكْرِيِّ الثَّقَافِيِّ المُوَجَّهِ عَبْرَ وَسَائِلِ الإِعْلَامِ وَالاِتِّصَالِ فِي زَمَنِ المُحْدَثَاتِ التِّكْنُولُوجِيَّةِ الكَثِيرَةِ، وَهَذَا فِي عُرْفِ العُقَلَاءِ وَالفُهَمَاءِ وَالفُضَلَاءِ أَعْظَمُ ضَرَرًا وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا وَأَكْثَرُ إِفْسَادًا. وَهَذَا الاِسْتِدْمَارُ الثَّانِي لَا عَاصِمَ مِنْهُ وَلَا نَجَاةَ مِنْ شَرِّهِ إِلَّا بِالاِعْتِصَامِ بِاللهِ تَعَالَى.

وَقَدْ لَاقَى شَعْبُنَا الجَزَائِرِيُّ المُسْلِمُ مِنْ وَيْلَاتِ الاِسْتِدْمَارِ الفَرَنْسِيِّ بِنَوْعَيْهِ مَا يَعْجَزُ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ وَالقَلَمُ عَنْ خَطِّهِ، وَيَسْتَعْصِي الذِّهْنُ عَلَى اسْتِحْضَارِهِ؛ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ وَشَنَاعَةِ صُوَرِهِ؛ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَتَعْذِيبٍ وَتَنْكِيلٍ وَتَشْرِيدٍ وَتَهْجِيرٍ وَتَجْوِيعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا تَذْهَلُ لَهُ العُقُولُ وَتَنْخَلِعُ لَهُ القُلُوبُ وَتَذْرِفُ لَهُ المَآقِي وَتَقْشَعِرُّ لَهُ الجُلُودُ وَالأَبْدَانُ.

إِنَّهُ قَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ البَاحِثِينَ -بَعْدَ التَّفَرُّسِ وَبُعْدِ النَّظَرِ- أَنَّ عَزْمَ فَرَنْسَا عَلَى احْتِلَالِ الجَزَائِرِ يَرْجِعُ أَسَاسًا إِلَى اسْتِنْهَاضِ الحَمَلَاتِ الصَّلِيبِيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ وَتَجْدِيدِ عَهْدِهَا بِالاِنْتِقَامِ مِنَ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مُرَافَقَةُ الجُيُوشِ الفَرَنْسِيَّةِ القَادِمَةِ إِلَى الجَزَائِرِ لِمَجْمُوعَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ دُعَاةِ التَّبْشِيرِ وَالتَّنْصِيرِ، الَّذِينَ تَوَفَّرَتْ فِيهِمُ القُدْرَةُ العِلْمِيَّةُ وَالحِنْكَةُ وَالتَّجْرِبَةُ الطَّوِيلَةُ فِي تَنْصِيرِ كَثِيرٍ مِنْ أَقْطَارِ الشُّعُوبِ المُسْتَضعَفَةِ آنَذَاكَ وَمِنْهَا الشُّعُوبُ الإِفْرِيقِيَّةُ.

وَنَظَرُ هَؤُلَاءِ النُّقَّادِ وَالبَاحِثِينَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ، لَا سِيَّمَا حِينَ نَعْلَمُ أَنَّ فَرَنْسَا عِنْدَ شَدِّ رِحَالِهَا إِلَى الجَزَائِرِ بِقَضِّهَا وَقَضِيضِهَا وَجَيشِهَا وعَتَادِهَا، اتَّجَهَتْ مُبَاشَرَةً إِلَى تَقْوِيضِ بُنْيَانِ أَعْظَمِ رُكْنٍ يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ الشَّعْبُ الجَزَائِرِيُّ، أَلَا وَهُوَ الدِّينُ، أَعْنِي الإِسْلَامَ.

يُتْبَعُ